بدون سكر…

بقلم: صفوان سلطان
في ركن بعيد عن صخب الحياة، وبين ضجيج لا يهدأ، جلست أنتظر كوب قهوتي. طلبت البن الفاتح المحوج، لعله يفتح لي آفاقًا جديدة وأملاً ينتشلني من دوامة أفكار متعبة. كانت تلك القهوة الصغيرة التي احتميت بها من برد الشارع تعج بالزوار، تُدفئهم أجواؤها البسيطة، ولم يكن هناك مقعد شاغر فلقد غنمت اخر المقاعد.
مر من أمام مقعدي في القهوة رجل بملامح تشي بخبرة السنين، على وجهه انحناءات رسمتها أعوام من الالم. سارعت لدعوته للجلوس، وقلت له: “تفضل يا أستاذ”. أنزل جزءًا من نظارته ونظر إليَّ متفحصًا من أعلى العدسات وسأل: “أنت يمني؟” ثم حدق أكثر وقال: “صفوان؟”
ابتسمت فرحًا وهو يتذكرني رغم مرور السنوات. كان معلمي الذي علمني أولى دروس السياسة، فنهضت احترامًا له، وجلسته مكاني في الركن الدافئ، لعله يستعيد شيئًا من طاقته.
ذهبت لجلب كرسي آخر وعدت سريعًا، خطواتي تتسابق، لكن أفكاري سبقتني تبحث عن السؤال الذي قد يفتح معه حديثًا مهمًا. طلبت له القهوة السوداء بدون سكر، وسألته: “لماذا تشربها هكذا؟”
تنهد وقال: “لأنني أبتعد عن كل شيء زائف. السكر يداعب اللسان، لكنه لا يصل إلى القلب. أيامنا لم يعد يسكّرها شيء، يا بني، إلا الأمل. وحتى الأمل يحاولون أن يسرقوه منا.”
صمت قليلاً، ورأيت في عينيه دموعًا متحجرة، وكأنها رفضت الانهيار أمام غريب. حاولت تغيير الأجواء لتخفيف ثقل حديثه، وقلت مبتسمًا: “أستاذي، أتذكر عندما كنت تعلمني التسويق السياسي، وكيف تحدثت عن هرم ماسلو للاحتياجات؟ كنت حينها أرى أن الحرية والديمقراطية أهم من أساسيات الحياة كالطعام والماء.”
قاطعني قائلاً: “وماذا وجدت الآن؟ هل ما زلت ترى ذلك؟ ألم تعد تبحث عن الأمن قبل الطعام؟”
صمتت الكلمات في فمي، لكنه استرسل كعادته: “صفوان، هل تعتقد أن رئيس الوزراء في اليمن يدير البلد حقًا؟”
أجبته بثقة: “بالطبع.”
هز رأسه نافيًا، ثم نظر إلي من فوق نظارته وقال: “لو كان كذلك، لما وصلنا إلى هذا الحال. يا بني، عندما تتحول احتياجات الناس إلى سلعة تُباع في سوق السياسة، وعندما تُدفع الأموال لتعطيل العمل بدلاً من دعمه، وعندما تُحيك الأطراف المكائد لإفشال المسؤولين لا لتحقيق مصالح الناس، كيف تتوقع لرئيس حكومة أو أي قائد أن يُنجز؟”
رأيته وقد أثقلته هموم وطنه، فقلت: “لكن ألا ترى أن علينا أن نمنح المسؤول فرصة للعمل؟ إن أردنا النجاح لوطننا، لا بد أن نكون جزءًا من الحل، لا عقبة في الطريق. المسؤول، أيًا كان موقعه، يحتاج إلى أدوات ليبني، لا قيود تشل حركته.”
قال بنبرة هادئة، لكنها حملت ألمًا: “هذا كلام جميل، لكن الواقع شيء آخر. يا بني، العمل السياسي في اليمن كمن يحاول إنقاذ قارب غارق، بينما البقية يفتحون ثقوبًا جديدة في القاع.”
أجبته: “لكن أليس الأمل أول خطوة نحو الحل؟ إن اجتمع الجميع لدعم رئيس الوزراء، أو أي مسؤول، ووقفوا معه بدلاً من أن يضعوا العراقيل، ألن يكون هناك فرصة حقيقية للنهوض؟ الوطن يحتاج إلى تعاون الجميع، وإلى فهم أن نجاح القائد هو نجاح للوطن كله.”
ابتسم بخفة وقال: “صفوان، الوطن يشبه شجرة عتيقة، جذورها عميقة لكنها منهكة. إذا لم نتكاتف لرعايتها، فلن نجد يومًا ظلًا نحتمي به من شمس الغد.”
رحل أستاذي تاركًا وراءه كلمات أشبه بالرياح التي تحرك الأشرعة في بحر هائج. أما أنا، فبقيت أنظر إلى كوب القهوة، بلا سكر… مثل أيامنا التي تحتاج إلى طعم جديد، طعم الأمل والعمل معًا.