مدينة النواقيس والمآذن

مدينة النواقيس والمآذن
بقلم: صفوان سلطان
ناقوسٌ معلّقٌ في الفراغ، لا ريح تهزّه، ولا يدٌ تدقّه، ولا أحدٌ يسمع صدى صمته.
هكذا تبدأ معاناة عدن، حيث ينحني الزمان، وتختنق الآمال في ظلال الإهمال. مدينةٌ تتردّد فيها أصوات منسية، كأنها صرخاتٌ تتكسر على جدران كنيسةٍ مهجورة، فتضيع في العتمة، كما لو أن الليل قرّر أن يبتلعها إلى الأبد.
في كل زاوية، تمتد آثار الألم؛ الجدران المتهالكة شاهدةٌ على دموع أجيالٍ تعاقبت، والأسطح التي حملت يوماً أحلام البسطاء صارت تهمس بأسرار الخذلان. عدن آنذاك كانت أشبه بأرضٍ عطشى، تنتظر الغيث الذي لا يأتي. الأشجار ذابلة، والمياه شحيحة، والمآذن، التي كانت تردد دعوات الأمل، باتت تصدح بخطبٍ جوفاء، كلماتها ترتفع إلى السماء، لكنّها لا تمسّ القلوب، ولا تحرّك الضمائر.
وفي الشوارع التي أرهقها الصمت، يخيّم الحزن كثوبٍ ثقيل، يجرّ وراءه ظلال المحتاجين. هناك، حيث ينام الأطفال تحت أضواء خافتة، لا حربٌ تُنهي جوعهم، ولا سلامٌ يملأ بطونهم الخاوية. ترى السلاح يُباع بسعرٍ بخس، بينما يُباع المستقبل كسلعةٍ في أسواق النسيان.
وسط هذا المشهد الكئيب، تصبح المعاناة لحنًا مأساويًا يملأ الأفق. يكتب الناس قصصهم على جدران الزمان، لكنها قصصٌ بلا قرّاء، رسائلُ تبعثرها الرياح دون أن تجد من يصغي. يموتون بصمت، لا برصاص المعارك، بل برصاص الإهمال. عند أبواب المستشفيات التي لم تعد تستقبل إلا الموت، وعند صنابير المياه التي جفّت، وحول موائدٍ فارغة، حيث تُقدم الحياة على هيئة وعودٍ منسية.
لكن المدينة، رغم اختناقها، لم تمت. في عمق الألم، تحت الرماد، ما زال جذرٌ صغيرٌ يقاوم. فكما لا يبقى الناقوس صامتًا إلى الأبد، ولا تظل المآذن بلا صوت، كذلك عدن، مهما طالت عتمتها، ستستفيق. سيأتي يومٌ تدقّ فيه النواقيس و تصدح المآذن، لا لتعلن الحداد، بل لتوقظ المدينة من سباتها. يومها، لن يكون الصمت خيارًا، ولن تبقى الجدران كاتمةً للشهادات. حينها، سيشهد العالم أن عدالةً تأخرت، لكنها لم تُمحَ، وأن المدن، وإن بدت مستسلمة، لا تموت، بل تنتظر ساعة النهوض.
وفي ذلك اليوم، ستكتب عدن تاريخًا جديدًا، لا يكون فيه الفقراء وقودًا للصراعات، ولا يُباع فيه الغد كما يُباع اليوم. يومٌ تستعيد فيه المدينة نبضها، وكرامة أبنائها، وصوتها الذي كان يومًا مخنوقًا بين نواقيس صامتة ومآذن خرساء.